منذ أن فكرت في كتابة هذا المقال، وأنا أحاول أن أجد له مقدمة جذابة تلفت إليه الأنظار، أو بالأحرى تبهر القارئ أيما انبهار، لكنني وجدت أنني بذلك قد أحيد عن مضمون ما أود الحديث عنه، وهو ما قد تعتبرونه وجهة نظر شخصية إن شئتم، رغم أنها قراءة في تاريخ ليس ببعيد عنا، لذا، قررت أن أقصر الطرق للهدف هي الطريق المستقيم، ولكن قبل البدء، علينا جميعا طرح انتماءاتنا جانبا، وأن ينزع كل منا عباءة التعصب، فالأمر يحتاج نظرة منصفة من منظار أخلاقي وإنساني بحت.
يقول الشاعر اللبناني "شاعر القطرين" خليل مطران:
سَجَدوا لِكِسْرى إِذْ بَدا إِجْلالا
كَسُجودِهِمْ لِلشَّمْسِ إِذْ تَتَلالا
عُبّاد كِسْرى مانِحِيهِ نُفوسَكُمْ
وَرِقابَكُمْ وَالعِرْضَ وَالأَمْوالا
تَسْتَقْبِلونَ نِعالَهُ بِوُجوهِكُمْ
وَتُعَفِّرونَ أَذِلَّةً أَوْكالا
إن الأقبح من الذنب، هو تبرير الذنب، والأقبح منهما هو الترحيب به، ولو بالصمت العاجز قليل الحيلة، الذي يحمل بين طياته مباركة ضمنية، وعلى مر العصور، شهد التاريخ أحداثا دامية مؤسفة، كانت ولا تزال بقعة سوداء في ثوب مرتكبيها، إذ لا يصح أن تحيا على جثث الآخرين، مهما بدت أهدافك سامية ونبيلة، فكما يُقال، الطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الحسنة، إلا أن الأمر يزداد سوءا عندما تُقابل مثل هذه الممارسات بالرضا والارتياح، حتى وإن لم يتم الجهر بذلك، فمثلا، نرى أن بعض الشعوب قد تضيق ذرعا من ممارسات ظالمة في حقهم، وحينئذ يأتي من يُعتقد أنه المُخَلص، فيفتك بالظالمين فتكا، ويصبح هذا المُخَلص بطلا في عيون القاصي والداني، ولكن، سرعان ما تتبدل الأدوار، وتدور الدائرة على هذه الشعوب ليذوقوا من نفس الكأس، وممن اعتبروه بطلا ثائرا آنذاك، حيث لم يعد الفارس المُخَلص، بل جلادا آخر، عبر إليهم من بوابة فتحوها له بأنفسهم على مصراعيها، إنها بوابة التأييد الشعبي!
إذن فالتأييد الشعبي سلاح ذو حدين، لكنه أحيانا كثيرة يكون أشبه بالقفز من أعلى قمة جبل هربا من وَحش مفترس! ولإيضاح الأمر، تعالَوا نسافر عبر الزمن، ستكون وجهتنا هي القرن التاسع عشر الميلادي.
"عندما نسمع تعبير (مصر الحديثة)، نذكر على الفور (محمد علي)، فهو المؤسس والرائد الذي انتقل بمصر من ظلام العصور الوسطى إلى مشارف العصر الحديث، وهو الذي أشعل بيده شرارة النور والعلم والعرفان، فعَم ضياؤها أرجاء مصر والشرق العربي، وهو بهذا يقف على قدم المساواة مع مينا وخوفو وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني في مصر القديمة. كان ظهور محمد علي إيذانا بأفول ثلاثة قرون من الجهل والضعف والتخلف، عاشتها مصر تحت حكم العثمانيين، وبزغت بظهوره نهضة جديدة، أخرجت مصر من كبوتها، ودفعت بها إلى مستوى الدول القوية...". كان هذا ما قاله جمال بدوي في كتابه "محمد علي وأولاده"، وليس في الأمر مبالغة، إذ أن محمد علي كان ذائع الصيت إبان تنصيبه واليا على مصر من الباب العالي، نزولا عند رغبة المصريين الذين طالبوا به، وقت أن كانت للمصريين إرادة حرة حقيقة؛ سعيا نحو التخلص من فساد وظلم المماليك الذي استشرى وأخذ ينهش في الجسد المصري، وبالفعل، تم للمصريين ما أرادوا، ونُصب محمد علي واليا على مصر، وأحدث نهضة كبيرة هائلة في التعليم والصحة والزراعة والتجارة والاقتصاد، حتى أن حدود الدولة المصرية وقتها تاخمت الأناضول، إلا أن هذا كله لا يغفر مطلقا تلك النقطة السوداء في سجل محمد علي، والتي استخدم المصريين فيها بشكل غير مباشر، ليثبت دعائم حكمه دون مزاحمة من المماليك الذين لم يتوانوا عن استغلال كل فرصة لإزاحة محمد علي والإطاحة به؛ ليظفروا بحكم مصر من جديد، وهم الذين رفضوا من قبل الاعتراف بمحمد علي حاكما على مصر بعد أن كانت لهم مقدراتها طوال ستمئة سنة، ولكن المماليك بدهائهم ومكرهم لم يكونوا أشد دهاء ومكرا من محمد علي، بل كان هو شرا منهم وأكثر غدرا.
في صييحة يوم الحادي عشر من مارس عام ١٨١١، تزينت القاهرة بالأعلام والبيارق، وخرج الأهالي ليودعوا الجيش الذي كان ذاهبا لمحاربة الوهابيين في الحجاز، في الوقت ذاته كان محمد علي في قصره بالقلعة، يستقبل العلماء والشيوخ والقضاة والأعيان، الذين توافدوا لتهنئته بمناسبة المعركة الوشيكة بينه وبين الوهابيين، والدعاء لقائد هذه الحملة أحمد طوسون باشا -ابن محمد علي- بالنصر، لكن اللافت للأنظار هو قدوم المماليك أيضا إلى القصر، تعبيرا عن سعادتهم بالدعوة التي وجهها إليهم محمد علي لحضور الاحتفال، وليكونوا ضمن الموكب الذي سيصاحب الحملة أثناء مرورها في شوارع القاهرة، ظانين أن هذا سيكون إعلانا للمصالحة، وبداية عهد جديد بينهم وبين محمد علي، الذي نجح ببراعة في إخفاء نيته المبيتة للإجهاز عليهم دون أن يهتز له جفن، هكذا ظنوا، فها هو اليوم يستقبل أعداء الأمس بوجه بشوش وكلمات معسولة، ولم يخطر ببال أحد أن هذه الابتسامات ليست إلا سرابا خادعا يخفي وراءه المصير الدامي والنهاية المفجعة للمماليك، وبالفعل، حانت اللحظة الحاسمة، دوى النفير، ودقت الطبول إيذانا بتحرك الحملة، وما إن أذن محمد علي للمماليك بالرحيل حتى امتطوا خيولهم متجهين إلى إحدى بوابات القلعة، وما لبث المماليك أن اقتربوا من تلك البوابة حتى أوصدت في وجوههم، وحوصروا جميعا من قِبل جنود محمد علي الذين سرعان ما أشهروا بنادقهم في وجوههم، وبدأ الرصاص في الانهمار عليهم، حتى أبيد المماليك عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم سوى أمين بك، المعروف باسم "المملوك الشارد"، لتنتهي بذلك حقبة المماليك تحت عنوان "مذبحة القلعة".
يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: "نحن لا نريد أن ندافع عن المماليك، وقد سجلنا المساوئ التي ارتكبوها، والمضار التي جلبوها على البلاد، ولكن، مهما بلغت سيئاتهم فالقضاء عليهم بوسيلة الغدر أمر تأباه الإنسانية، ولو أن محمد علي باشا استمر في محاربتهم وجها لوجه حتى تخلص منهم في ميادين القتال، لكان ذلك خيرا له ولسمعته، ولا يسوغ فعلته أن هذه الوسيلة كانت مألوفة في ذلك العصر، وأن هذه المؤامرة هي صورة مكبرة لمذبحة أخرى دبرها الباب العالي للفتك بالمماليك سنة ١٨٠٤ بنفس الطريقة، فإن تكرار السيئات لا يبررها، فمذبحة القلعة كانت نقطة سوداء في تاريخ محمد علي.".
ما تشير إليه المصادر التاريخية أن المذبحة لم تلق تأييدا حتى من أصدقاء محمد علي المدافعين عنه وعن حكمه على الرغم من أن بعضهم كان يعدها خيرا لمصر، إلا أن عامة المصريين قابلوا هذا الحدث بارتياح شديد، فهم ظنوا أنها نهاية حقبة من الظلم والقسوة والفساد، على يد بطلهم المختار، لكن الرياح أحيانا تأتي بما لا تشتهي السفن، فمن هتفوا له بالأمس، أصبحوا اليوم يهتفون ضده، فبعد أن أباد هذا الألباني القابع بين جدران القلعة هؤلاء المماليك عن بكرة أبيهم، تفرغ لما ارتأى أنه أهم شيء لابد أن يتم إنجازه والفروغ منه، ألا وهو بناء جيش قوي ومتين، حيث رأى أن النواة الأساسية لأي دولة قوية هي وجود جيش قوي يحميها، خاصة بعد أن فقدت مصر قوتها الحربية منذ سقوطها أمام جحافل الفرس بقيادة "قمبيز" قبل ما يقرب من ستة قرون من ميلاد المسيح، وانتقال مسؤولية الدفاع عن البلاد إلى المرتزقة الأجانب، ناهيك عن أن الشراذم العسكرية "الأرناؤوط والباشبوزق" التي كانت موجودة إلى جانب محمد علي من أحط العناصر الهمجية التي لم تتعود النظام أو الطاعة، وكان كل همها السلب والنهب والسطو، فما كان من محمد علي إلا أن قرر إدخال نظام جديد للتجنيد في سرية تامة، بعيدا عن أعين الأرناؤوط والأتراك والشركس الذين يقفون له بالمرصاد ويدبرون له الدسائس والمؤامرات، فاتخذ من أسوان مركزا لتنفيذ مشروعه الكبير، وأمر ببناء الثكنات والمدارس العسكرية، ولكن هذه المرة بالاعتماد على المصريين أنفسهم، خاصة بعد الفشل الذريع جراء محاولة الاستعانة بأبناء "كردفان" و"سنار" من بلاد السودان على إثر تفشي الموت بينهم بسبب اختلاف المناخ، عندئذ اتخذ محمد علي قراره بتجنيد الفلاحين المصريين، وهذا ما أثار ثائرة هؤلاء الفلاحين، إذ انتهج محمد علي طرقا غير إنسانية في جمعهم قسرا وقهرا وتقييدهم بالحبال وسوقهم كالدواب إلى معسكرات التجنيد، يقول المؤرخ العسكري محمد فيصل عبد المنعم في كتابه "مصر تحت السلاح": "إن المتتبع للطريقة التي اتبعها محمد علي لتجنيد المصريين، يلاحظ بجلاء مدى احتقاره للمصريين الذين كان يدعوهم بالفلاحين وامتهانه لآدميتهم، رغم أن هذا الشعب بذاته هو الذي اختاره وانتخبه لحكمه، فلقد كانت الأساليب المتبعة لجمع المجندين منفردة إلى أبعد الحدود، الأمر الذي جعل المصريين يكرهون الجندية، وهو الشعب الذي طالما عرف عنه الميل إلى النظام والطاعة وحب الوطن"، تلك الطريقة البربرية في جمع الجنود جعلت الفلاحين يقابلون مشروع محمد علي بالسخط والنفور، كيف لا والموكلون بجمع الجنود لم يفرقوا بين شيخ أو طفل أو ذي عاهة أو مريض، فما كان منهم إلا أن ثاروا -كعادتهم- ضد محمد علي ونظامه الجديد وما رأوا منه من ظلم وقسوة وطغيان، ولكن، يبدو أن المصريين قد انكسرت شوكتهم هذه المرة، بعد أن خرج إليهم محمد علي بالمدافع الميدانية ليقمع ثورتهم تلك، وبالفعل، استطاع محمد علي إخماد نيران هذا السخط والتذمر، وكأن شيئا لم يكن، بل لقد استطاع أيضا أن يحبب إليهم الخدمة العسكرية مستغلا رجال الدين، الذين ما لبثوا أن استغلوا طيبة هؤلاء البسطاء، وغرسوا فيهم الاعتقاد بأن الانصياع لنظام التجنيد الجديد هو إرضاء لله! لا شك أن العسكرية شرف، فليس هناك أغلى من الوطن للذود عنه، ولكن، ما كان ينبغي للأمور أن تكون بهذا العسف.
انتهى عصر محمد علي، وولى زمانه، وتعاقبت العصور والأزمان، ومنذ ذلك الحين والتاريخ يعيد نفسه حتى هذه اللحظة، ولكن، إن كنا نبرر لمحمد علي بأنه أنشأ دولة حديثة وقوية، متقدمة في كافة المجالات، فما هو عزاؤنا الآن إزاء كل هذا التردي؟ هل مازلنا في انتظار المُخَلِّص؟ لابد أن ندرك أن المُخَلِّص ليس الحلم، بل إن العدالة هي الحلم، والعدالة لا يمثلها شخص أو فرد بعينه، وإنما تتمثل في دولة المؤسسات، حيث الجميع يعرف دوره جيدا بما له وما عليه، وحيث تتكامل كل تلك الأدوار لتصب في مصلحة الوطن والمواطن في آن، فإن كنا ننشد التغيير، يتوجب علينا التخلص من أسطورة المُخَلِّص، وإلا فسنصبح نحن الجناة والضحية.