الاثنين، 24 يوليو 2017

الرعية.. جناة أم ضحية؟!

منذ أن فكرت في كتابة هذا المقال، وأنا أحاول أن أجد له مقدمة جذابة تلفت إليه الأنظار، أو بالأحرى تبهر القارئ أيما انبهار، لكنني وجدت أنني بذلك قد أحيد عن مضمون ما أود الحديث عنه، وهو ما قد تعتبرونه وجهة نظر شخصية إن شئتم، رغم أنها قراءة في تاريخ ليس ببعيد عنا، لذا، قررت أن أقصر الطرق للهدف هي الطريق المستقيم، ولكن قبل البدء، علينا جميعا طرح انتماءاتنا جانبا، وأن ينزع كل منا عباءة التعصب، فالأمر يحتاج نظرة منصفة من منظار أخلاقي وإنساني بحت.

يقول الشاعر اللبناني "شاعر القطرين" خليل مطران:

سَجَدوا لِكِسْرى إِذْ بَدا إِجْلالا
كَسُجودِهِمْ لِلشَّمْسِ إِذْ تَتَلالا
عُبّاد كِسْرى مانِحِيهِ نُفوسَكُمْ
وَرِقابَكُمْ وَالعِرْضَ وَالأَمْوالا
تَسْتَقْبِلونَ نِعالَهُ بِوُجوهِكُمْ
وَتُعَفِّرونَ أَذِلَّةً أَوْكالا

إن الأقبح من الذنب، هو تبرير الذنب، والأقبح منهما هو الترحيب به، ولو بالصمت العاجز قليل الحيلة، الذي يحمل بين طياته مباركة ضمنية، وعلى مر العصور، شهد التاريخ أحداثا دامية مؤسفة، كانت ولا تزال بقعة سوداء في ثوب مرتكبيها، إذ لا يصح أن تحيا على جثث الآخرين، مهما بدت أهدافك سامية ونبيلة، فكما يُقال، الطريق إلى جهنم محفوف بالنوايا الحسنة، إلا أن الأمر يزداد سوءا عندما تُقابل مثل هذه الممارسات بالرضا والارتياح، حتى وإن لم يتم الجهر بذلك، فمثلا، نرى أن بعض الشعوب قد تضيق ذرعا من ممارسات ظالمة في حقهم، وحينئذ يأتي من يُعتقد أنه المُخَلص، فيفتك بالظالمين فتكا، ويصبح هذا المُخَلص بطلا في عيون القاصي والداني، ولكن، سرعان ما تتبدل الأدوار، وتدور الدائرة على هذه الشعوب ليذوقوا من نفس الكأس، وممن اعتبروه بطلا ثائرا آنذاك، حيث لم يعد الفارس المُخَلص، بل جلادا آخر، عبر إليهم من بوابة فتحوها له بأنفسهم على مصراعيها، إنها بوابة التأييد الشعبي!

إذن فالتأييد الشعبي سلاح ذو حدين، لكنه أحيانا كثيرة يكون أشبه بالقفز من أعلى قمة جبل هربا من وَحش مفترس! ولإيضاح الأمر، تعالَوا نسافر عبر الزمن، ستكون وجهتنا هي القرن التاسع عشر الميلادي.


"عندما نسمع تعبير (مصر الحديثة)، نذكر على الفور (محمد علي)، فهو المؤسس والرائد الذي انتقل بمصر من ظلام العصور الوسطى إلى مشارف العصر الحديث، وهو الذي أشعل بيده شرارة النور والعلم والعرفان، فعَم ضياؤها أرجاء مصر والشرق العربي، وهو بهذا يقف على قدم المساواة مع مينا وخوفو وتحتمس الثالث ورمسيس الثاني في مصر القديمة. كان ظهور محمد علي إيذانا بأفول ثلاثة قرون من الجهل والضعف والتخلف، عاشتها مصر تحت حكم العثمانيين، وبزغت بظهوره نهضة جديدة، أخرجت مصر من كبوتها، ودفعت بها إلى مستوى الدول القوية...". كان هذا ما قاله جمال بدوي في كتابه "محمد علي وأولاده"، وليس في الأمر مبالغة، إذ أن محمد علي كان ذائع الصيت إبان تنصيبه واليا على مصر من الباب العالي، نزولا عند رغبة المصريين الذين طالبوا به، وقت أن كانت للمصريين إرادة حرة حقيقة؛ سعيا نحو التخلص من فساد وظلم المماليك الذي استشرى وأخذ ينهش في الجسد المصري، وبالفعل، تم للمصريين ما أرادوا، ونُصب محمد علي واليا على مصر، وأحدث نهضة كبيرة هائلة في التعليم والصحة والزراعة والتجارة والاقتصاد، حتى أن حدود الدولة المصرية وقتها تاخمت الأناضول، إلا أن هذا كله لا يغفر مطلقا تلك النقطة السوداء في سجل محمد علي، والتي استخدم المصريين فيها بشكل غير مباشر، ليثبت دعائم حكمه دون مزاحمة من المماليك الذين لم يتوانوا عن استغلال كل فرصة لإزاحة محمد علي والإطاحة به؛ ليظفروا بحكم مصر من جديد، وهم الذين رفضوا من قبل الاعتراف بمحمد علي حاكما على مصر بعد أن كانت لهم مقدراتها طوال ستمئة سنة، ولكن المماليك بدهائهم ومكرهم لم يكونوا أشد دهاء ومكرا من محمد علي، بل كان هو شرا منهم وأكثر غدرا.

في صييحة يوم الحادي عشر من مارس عام ١٨١١، تزينت القاهرة بالأعلام والبيارق، وخرج الأهالي ليودعوا الجيش الذي كان ذاهبا لمحاربة الوهابيين في الحجاز، في الوقت ذاته كان محمد علي في قصره بالقلعة، يستقبل العلماء والشيوخ والقضاة والأعيان، الذين توافدوا لتهنئته بمناسبة المعركة الوشيكة بينه وبين الوهابيين، والدعاء لقائد هذه الحملة أحمد طوسون باشا -ابن محمد علي- بالنصر، لكن اللافت للأنظار هو قدوم المماليك أيضا إلى القصر، تعبيرا عن سعادتهم بالدعوة التي وجهها إليهم محمد علي لحضور الاحتفال، وليكونوا ضمن الموكب الذي سيصاحب الحملة أثناء مرورها في شوارع القاهرة، ظانين أن هذا سيكون إعلانا للمصالحة، وبداية عهد جديد بينهم وبين محمد علي، الذي نجح ببراعة في إخفاء نيته المبيتة للإجهاز عليهم دون أن يهتز له جفن، هكذا ظنوا، فها هو اليوم يستقبل أعداء الأمس بوجه بشوش وكلمات معسولة، ولم يخطر ببال أحد أن هذه الابتسامات ليست إلا سرابا خادعا يخفي وراءه المصير الدامي والنهاية المفجعة للمماليك، وبالفعل، حانت اللحظة الحاسمة، دوى النفير، ودقت الطبول إيذانا بتحرك الحملة، وما إن أذن محمد علي للمماليك بالرحيل حتى امتطوا خيولهم متجهين إلى إحدى بوابات القلعة، وما لبث المماليك أن اقتربوا من تلك البوابة حتى أوصدت في وجوههم، وحوصروا جميعا من قِبل جنود محمد علي الذين سرعان ما أشهروا بنادقهم في وجوههم، وبدأ الرصاص في الانهمار عليهم، حتى أبيد المماليك عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم سوى أمين بك، المعروف باسم "المملوك الشارد"، لتنتهي بذلك حقبة المماليك تحت عنوان "مذبحة القلعة".

يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: "نحن لا نريد أن ندافع عن المماليك، وقد سجلنا المساوئ التي ارتكبوها، والمضار التي جلبوها على البلاد، ولكن، مهما بلغت سيئاتهم فالقضاء عليهم بوسيلة الغدر أمر تأباه الإنسانية، ولو أن محمد علي باشا استمر في محاربتهم وجها لوجه حتى تخلص منهم في ميادين القتال، لكان ذلك خيرا له ولسمعته، ولا يسوغ فعلته أن هذه الوسيلة كانت مألوفة في ذلك العصر، وأن هذه المؤامرة هي صورة مكبرة لمذبحة أخرى دبرها الباب العالي للفتك بالمماليك سنة ١٨٠٤ بنفس الطريقة، فإن تكرار السيئات لا يبررها، فمذبحة القلعة كانت نقطة سوداء في تاريخ محمد علي.".

ما تشير إليه المصادر التاريخية أن المذبحة لم تلق تأييدا حتى من أصدقاء محمد علي المدافعين عنه وعن حكمه على الرغم من أن بعضهم كان يعدها خيرا لمصر، إلا أن عامة المصريين قابلوا هذا الحدث بارتياح شديد، فهم ظنوا أنها نهاية حقبة من الظلم والقسوة والفساد، على يد بطلهم المختار، لكن الرياح أحيانا تأتي بما لا تشتهي السفن، فمن هتفوا له بالأمس، أصبحوا اليوم يهتفون ضده، فبعد أن أباد هذا الألباني القابع بين جدران القلعة هؤلاء المماليك عن بكرة أبيهم، تفرغ لما ارتأى أنه أهم شيء لابد أن يتم إنجازه والفروغ منه، ألا وهو بناء جيش قوي ومتين، حيث رأى أن النواة الأساسية لأي دولة قوية هي وجود جيش قوي يحميها، خاصة بعد أن فقدت مصر قوتها الحربية منذ سقوطها أمام جحافل الفرس بقيادة "قمبيز" قبل ما يقرب من ستة قرون من ميلاد المسيح، وانتقال مسؤولية الدفاع عن البلاد إلى المرتزقة الأجانب، ناهيك عن أن الشراذم العسكرية "الأرناؤوط والباشبوزق" التي كانت موجودة إلى جانب محمد علي من أحط العناصر الهمجية التي لم تتعود النظام أو الطاعة، وكان كل همها السلب والنهب والسطو، فما كان من محمد علي إلا أن قرر إدخال نظام جديد للتجنيد في سرية تامة، بعيدا عن أعين الأرناؤوط والأتراك والشركس الذين يقفون له بالمرصاد ويدبرون له الدسائس والمؤامرات، فاتخذ من أسوان مركزا لتنفيذ مشروعه الكبير، وأمر ببناء الثكنات والمدارس العسكرية، ولكن هذه المرة بالاعتماد على المصريين أنفسهم، خاصة بعد الفشل الذريع جراء محاولة الاستعانة بأبناء "كردفان" و"سنار" من بلاد السودان على إثر تفشي الموت بينهم بسبب اختلاف المناخ، عندئذ اتخذ محمد علي قراره بتجنيد الفلاحين المصريين، وهذا ما أثار ثائرة هؤلاء الفلاحين، إذ انتهج محمد علي طرقا غير إنسانية في جمعهم قسرا وقهرا وتقييدهم بالحبال وسوقهم كالدواب إلى معسكرات التجنيد، يقول المؤرخ العسكري محمد فيصل عبد المنعم في كتابه "مصر تحت السلاح": "إن المتتبع للطريقة التي اتبعها محمد علي لتجنيد المصريين، يلاحظ بجلاء مدى احتقاره للمصريين الذين كان يدعوهم بالفلاحين وامتهانه لآدميتهم، رغم أن هذا الشعب بذاته هو الذي اختاره وانتخبه لحكمه، فلقد كانت الأساليب المتبعة لجمع المجندين منفردة إلى أبعد الحدود، الأمر الذي جعل المصريين يكرهون الجندية، وهو الشعب الذي طالما عرف عنه الميل إلى النظام والطاعة وحب الوطن"، تلك الطريقة البربرية في جمع الجنود جعلت الفلاحين يقابلون مشروع محمد علي بالسخط والنفور، كيف لا والموكلون بجمع الجنود لم يفرقوا بين شيخ أو طفل أو ذي عاهة أو مريض، فما كان منهم إلا أن ثاروا -كعادتهم- ضد محمد علي ونظامه الجديد وما رأوا منه من ظلم وقسوة وطغيان، ولكن، يبدو أن المصريين قد انكسرت شوكتهم هذه المرة، بعد أن خرج إليهم محمد علي بالمدافع الميدانية ليقمع ثورتهم تلك، وبالفعل، استطاع محمد علي إخماد نيران هذا السخط والتذمر، وكأن شيئا لم يكن، بل لقد استطاع أيضا أن يحبب إليهم الخدمة العسكرية مستغلا رجال الدين، الذين ما لبثوا أن استغلوا طيبة هؤلاء البسطاء، وغرسوا فيهم الاعتقاد بأن الانصياع لنظام التجنيد الجديد هو إرضاء لله! لا شك أن العسكرية شرف، فليس هناك أغلى من الوطن للذود عنه، ولكن، ما كان ينبغي للأمور أن تكون بهذا العسف.


انتهى عصر محمد علي، وولى زمانه، وتعاقبت العصور والأزمان، ومنذ ذلك الحين والتاريخ يعيد نفسه حتى هذه اللحظة، ولكن، إن كنا نبرر لمحمد علي بأنه أنشأ دولة حديثة وقوية، متقدمة في كافة المجالات، فما هو عزاؤنا الآن إزاء كل هذا التردي؟ هل مازلنا في انتظار المُخَلِّص؟ لابد أن ندرك أن المُخَلِّص ليس الحلم، بل إن العدالة هي الحلم، والعدالة لا يمثلها شخص أو فرد بعينه، وإنما تتمثل في دولة المؤسسات، حيث الجميع يعرف دوره جيدا بما له وما عليه، وحيث تتكامل كل تلك الأدوار لتصب في مصلحة الوطن والمواطن في آن، فإن كنا ننشد التغيير، يتوجب علينا التخلص من أسطورة المُخَلِّص، وإلا فسنصبح نحن الجناة والضحية.


الثلاثاء، 29 نوفمبر 2016

{ذات الآيتين}

ما عرفت الشعر يوما
وفي رحابها تفجرت أشعاري
قلت سبحان من أبدع خلقا
كالشمس تشرق في نهاري
وفي ليلي تكون نجما
بل سيدة كل أقماري
حاضرة هي في كل وقت
وفي حلي وأسفاري
ظمآن من لم يذق يوما
الشهد من نبعها الساري
كالنسيم إن حلت بطيفها
وإن ضحكت فأغاريد كناري
لجمال الروح هي آية
وحسنها آية في أنظاري
فسلام على ذات الآيتين
هي في عقلي وقلبي وأغواري

#شرقاويات
#بقلمي

الأربعاء، 6 أبريل 2016

أخبروا ذاك المغامر

أخبروا ذاك المغامر بأنني...

لست أهوى رجلا عاديا

لست أرغب حبيبا تقليديا

أريد ساحرا

يفك طلاسمي ورموزي

فارسا

يعرف كيف يروض أنوثتي

عاشقا

يعرف كيف يدللني 

ويداعب طفولتي

ويصيب بسهامه قلبي

ويراودني عن نفسي

يعرف كيف يتملكني

ويسبر أغواري

ويرحل بين ثنايا جسدي

راهبا

يزهد الدنيا في حبي

ناسكا

يكون محرابي وقِبلتي

ويبتهل تضرعا في وصلي

فأخبروا ذاك المغامر

أن طيفه يسبقه إليَّ

وعليه اجتياز الموانع

ليظفر بي...

الثلاثاء، 5 أبريل 2016

لا تتعجلي

لا تتعجلي..

أعلم أن الشوق نال منك في انتظاري..
أعلم أن الشبق بلغ مبلغه في انتظاري..
أعلم أن حرارتك هزمت برد الشتاء في انتظاري..
أعلم أنك الآن جالسة..
تداعبين شعرك في ملل..
تتفقدين جسدا قد من سحر،
بنار الشوق قد اشتعل..
ترقبين الوقت على عجل..
ولكن، لا تتعجلي..
لن أدع رائحة عطرك تنجلي..
حتما سآتي..
فالليلة ليلتكِ..
سنذوب بين رعشتي ورعشتكِ..
وأصب بحور شوقي فأطفئ لهيب شوقك..
وتنجلي حرارتك..
فلا تتعجلي..

الصورة بريشة الفنان المصري المبدع وليد عبيد.

صفحة الفنان وليد عبيد على الفيسبوك: 

https://mobile.facebook.com/Artist-Walid-Ebeid-%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%AF-%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%AF-151606964872120/?ref=bookmarks


إكسير الحياة

الحب..

هو القوة

هو الإرادة

هو الحياة

وليس أشهى من قبلة

أرتشفها من شفاهك

هي إكسير الحياة


الأحد، 27 مارس 2016

أعلنت عليكِ العشق

أصبحت متقنا فن المبارزة
وسوف أكون لكِ ندًّا
فقد أعلنت عليكِ العشق
كلمة بكلمة
نظرة بنظرة
عناق بعناق
قبلة بقبلة
نشوة بنشوة
والبادئ أجرأ!

#شرقاويات

الاثنين، 25 يناير 2016

فَعِظوهُنَّ وَاهْجُروهُنَّ في الْمَضاجِعِ وَاضْرِبوهُنَّ

هناك الكثير من الأمور والإشكاليات الجدلية التي لا نخوض فيها، ولا نحاول البحث عن حقيقتها وبيان معناها وأسبابها وعلاتها، خشية الوقوع في بعض المخالفات؛ نتيجة لالتباس الأمر علينا، وهو ما أعتبره نتيجة للفهم القاصر والمعرفة السطحية بتلك الأمور، ما يجعلنا مضطرين للرجوع لآراء العلماء في تلك الأمور كونهم أعلم منا بشكل مطلق، وهو ما ينافي الأوامر الإلهية بضرورة التفكير والتدبر والتأمل وإعمال العقل، ففهم الدين ليس حكرا على أحد، ولا يحق لأحد أن يزعم لنفسه قدرة منفصلة في فهم نصوص الدين وتأويلها، بحيث يكون مرجعا لعامة البشر بحجة فهمهم القاصر، كلا ثم كلا، فالقرآن الكريم عندما أنزل، تُرك تفسيره -اجتهادا- لبشر مثلنا، وما يميزهم فقط هو أنهم بحثوا في الأمور المختلفة وبذلوا جهدا كبيرا لا يحق لأحد أن ينكره عليهم، في حين أننا أصبحنا لا نعتمد على عقولنا التي لم يخلقها الله لنا هباء، ولذلك أصبحنا دائما نعتمد على التلقين، وعلى من نظن أنهم أعلم منا نتيجة للابتعاد عن القراءة والعلم والمعرفة، حتى وإن كانت متعلقة بالأمور الفقهية، وطالما أن القائم بهذا العمل بشر، فهو يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ، والنقاش فيه لا يُخرج من الملة كما يدعي البعض، فلا قدسية إلا لله تعالى، والعصمة لا تكون إلا لنبي، أما الباقون فهم بشر مثلنا، يصيبون ويخطئون، ومثلما قاموا هم بالتفكير والتعلم والبحث، نحن أيضا مطالبون بذلك، مطالبون باستخدام العقل لا النقل، فالعقل يثبت النقل وليس العكس. أعتذر لكم عن هذه المقدمة الطويلة، فصحيح أنها ليست محور حديثي، ولكني أراها ضرورية للتمهيد إلى ما أود طرحه عليكم، تاركا لكم المجال للتحقق من صحة ما أقول، حيث أطالبكم بعدم الاعتماد عليه اعتمادا مطلقا والتسليم به، بل هو مطروح لتفكروا فيه جيدا قبل تقبله أو رفضه.

إن النصوص القرآنية، لا يجب أن تنتزع من أبعادها المختلفة، اللغوية والزمنية والتاريخية...، وأسباب نزولها، وعلاتها، فيما عدا الأوامر الصريحة التي لا تحتمل معنى آخر غير التي جاءت به، وسأضرب لكم بعض الأمثلة على ذلك:

"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا" (النساء 23).

"حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ۖ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ(5)". (المائدة 3، 4، 5)

"...وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا..." (البقرة 276)

"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ". (آل عمران 103)

"فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا". (النساء 103)

كل تلك الأمثلة السابقة –على سبيل المثال لا الحصر- لا يُعتقد أن فيها أي التباس، ولا يصعب على قارئ القرآن الكريم أن يفهم المقصود منها، فقد نزلت واضحة وصريحة ومباشرة، لا تورية فيها، وهنا، يأتي دور اللغة العربية في القرآن، فالقرآن الكريم كتاب معجز، معجز في تشبيهاته ولغته وبلاغته، فلا يصح أن تؤخذ كلماته بمعنىً حرفي فقط دون الرجوع إلى قواميس اللغة العربية، للبحث عن الكلمة ومشتقاتها ومعانيها المختلفة، حتى نصل إلى المعنى المراد من خلال سياق الآيات الكريمة، بما لا يتعارض أبدا مع العقل والمنطق، اللذين أمرنا الله تعالى أن نستخدمهما في أكثر من موضع في القرآن الكريم، "أفلا يتدبرون"، "أفلا تتفكرون"... إلخ.

مما سبق، نأتي مباشرة إلى الموضوع المنشود، وهو ما يتعلق بالآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء، يقول الله عز وجل: "وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا". (النساء 34).

معظم الأئمة والعلماء والمختصين بعلم التفسير، قد اجتهدوا كثيرا ليصلوا إلى أن معنى الضرب هنا هو الضرب غير المبرح، وبعضهم يقول إنه الضرب بالسواك، وقد جاء ذلك في صحيح مسلم، وعند ابن كثير، وأبي داوود، والحسن البصري، والنسائي، والطبري، وغيرهم من علماء المذهب السني، وأيضا عند بعض علماء وأئمة المذهب الشيعي، فقد جاء تفسيرهم ليتفق مع هذا التفسير، كالإمام الصَّنْعانيّ، ولكن، أرجو أن يتسمع صدركم لتقبل هذه الفكرة المختلفة بعض الشيء، أنهم ربما قد أغفلوا البعد اللغوي لمعنى كلمة الضرب، فالكلمات والمصطلحات عند العرب وقت أن نزل القرآن ليتحداهم بلغتهم، لم تكن قاصرة على معانٍ حرفية فقط، وإنما قد يحتمل مصطلح واحد أو كلمة واحدة أكثر من معنى، ولكن اسمحوا لي قبل سرد ذلك أن أذكركم أن الله تعالى هو الرحمن، والرحيم، واللطيف، والرؤوف، وهذه مجرد تذكرة سأستغلها لأربط بينها وبين ما سبق، وبين ما سيأتي لاحقا، واستنادا إلى رحمة الله تعالى، فقد قال عز وجل في كتابه الكريم: "وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ". (الروم 21). 

من ذلك نجد أن الضرب بمعناه الذي يعني التعرض الجسدي، يتعارض مع منطق المودة والرحمة بين الزوجين، وهذا تؤكده سلوكيات الأزواج في هذه الأيام، والتي تتنافى تماما مع ما سبق، حيث نرى أنهم يصلون إلى حد الركل والجلد لزوجاتهن، متخذين من كلمة "واضربوهن" حجة لهم، لكن الأمر غير ذلك تماما، سواءٌ بالمقارنة مع تفسير العلماء بأنه الضرب غير المبرح، أو مع ما يلي، وهو معنى كلمة الضرب ومشتقاتها في اللغة، بالمقارنة مع مواضع ورودها في القرآن الكريم. وردت كلمة ضرب في أكثر من خمسين موضعا في القرآن الكريم، نستعرض بعضها ليسهل علينا بعذ ذلك بيان معنى الضرب في الآية موضوع الحديث:

"لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ". (الحشر 21).

"وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا". (الكهف 45).

في الآيتين السابقتين، نجد أن كلمة الضرب قد جاءت بمعنى ذكر الأمثال أو الأمثلة، وأعتقد أن هذا الأمر واضح.

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا". (النساء 101). في هذه الآية، جاءت كلمة الضرب بمعنى السفر.

"ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ". (آل عمران 112). وهنا، جاءت كلمة الضرب بمعنى الاقتراب والإلصاق، ضربت عليهم الذلة، أي أُلصقت بهم الذلة وأصبحوا ذليلين.

"... وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ...". (النور 31). في هذا الموضع، جاءت كلمة الضرب بمعنى وضع حاجز، أو الستر، أي ستر وحجب وتغطية منطقة الجيب عند المرأة، وهي منطقة التقاء النهدين (الثديين).

"...فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا...". (الكهف 11). والمعنى هنا هو عدم قدرتهم على السمع.

"يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ". (الحديد 13)

"فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ". (الشعراء 63).

وفي الآتين السابقتين، معنى الضرب هو المباعدة، أي إبعاد شيء عن شيء آخر.

"أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ". (الرعد 17). وهنا جاءت كلمة الضرب بمعنى الفصل والتفريق، أي الفصل بين الحق والباطل والمباعدة بينهما.

هذه بعض الأمثلة التي ذكرت على سبيل المثال لا الحصر، لبيان المعاني المختلفة لكلمة الضرب ومشتقاتها، وكيف أن الكلمة يختلف معناها باختلاف سياق استخدامها، وهذا الأمر خاص بالقرآن الكريم المعجز في لغته وبلاغته، وعليه، فدعونا الآن نأتي إلى آيتنا التي نحن بصددها، وقبل شرح كلمة الضرب في "واضربوهن"، دعوني أستنتج شيئا مما قبل الضرب، أستخلصه من "واهجروهن في المضاجع"، فالهجر في المضاجع يكون بالامتناع عن الزوجة داخل المسكن، بما يسوقني لأن أستنتج أن هناك امتناع خارج المسكن، ليكون هذا هو المعنى في كلمة "واضربوهن"، والتي جاءت بمعنى الإعراض أو الابتعاد والمفارقة، وليس التعرض الجسدي لها، وهذا الأمر قد يكون الأقرب للمودة والرحمة في العلاقة الزوجية، والأقرب للعقل والمنطق في أن الله تعالى لا يرضيه أبدا تعرض الأزواج لزوجاتهم جسديا من خلال الضرب، وإن كان هذا هو المقصود، فلماذا لم تُذكر كيفية الضرب؟ وهنا لا يسعني إلا أن أقول بأن الله تعالى لا يقصد أبدا أن يضعنا في حيرة من أمرنا، فقد أنزل القرآن يسيرا لنفهمه ونتدبر معانيه، وهذا الأمر ليس قاصرا على الفقهاء فقط، وإنما للعامة أيضا، قال تعالى: " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ". (القمر 17، 22،32، 40)، وهنا نجد أن هذه الآية قد وردت في أربعة مواضع، للتأكيد على أهمية -بل وضرورة- التدبر في القرآن وفهم معانيه العميقة فهما صحيحا مجردا من الأهواء. وفيما يتعلق بالسؤال السابق عن سبب عدم ذكر كيفية الضرب إن كان المقصود به الضرب الجسدي، فإن البعض قد يتمسك -كما أسلفت- بأنه الضرب غير المبرح، إلا أن تفاوت القوة الجسدية والعضلية بين الرجل والمرأة، تجعل هذا الأمر نسبيا، يضع احتمالات لوقوع أذى جسدي للمرأة، في الوقت الذي يظن الرجل أنه لم يَقْسُ عليها بضربه لها، وفي المقابل، دعوني أسأل سؤالا مشروعا، ترى ماذا تفعل الزوجة إذا أغضبها زوجها؟ أتضربه هي أيضا؟ في اعتقادي أن الأمر هنا يتحول إلى معركة، البقاء فيها للأقوى، وهو ما يتعارض مع قوله عز وجل: "...وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...". ( النساء 19).

حتى لا يظل الأمر في نطاق القرآن الكريم فقط، لبعض الذين لا يحبون الفصل بينه وبين الحديث، فدعونا ننتقل الآن إلى الأحاديث، فإنه وعلى الرغم من ورود بعض الأحاديث التي رأيتها بنفسي، مؤكدا على عدم معرفتي بعلم الحديث ومدى صحتها من عدم صحتها، والتي يُذكَر فيها -حسب ناقل الحديث- قيام الرسول عليه الصلاة والسلام بذكر الضرب الغير مبرح لفظا، إلا أن هناك أحاديث أخرى لا أدري لماذا أغفلها البعض، وآثر جانبا دون الآخر، وكأنهم استحسنوا مسألة ضرب المرأة جسديا، ولكن، دعوني أسرد لكم بعض تلك الأحاديث: 

"عن عبد الله بن زمعة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها في آخر اليوم. رواه البخاري"، "وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة إن كره منها خُلُقا رضي منها آخر. رواه أبو مسلم"، وفي تفسير الحديث السابق فقد قال الحافظ النووي رحمه الله: أي أنه لا ينبغي أن يبغضها لأنه إن وجد فيها خلقا يكره وجد فيها خلقا مرضيا بأن تكون شرسة الخلق لكنها دينة وجميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك... شرح صحيح مسلم.

"وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا. رواه البخاري ومسلم". 

هذه الأحاديث وغيرها، تعد مثالا لحسن معاملة الأزواج لزوجاتهم، واستقباح التعرض لهن جسديا بالأذى وإن كان ضربا غير مبرح كما ورد في بعض التفسيرات كما أسلفت، أما من أراد أن أن يصفع زوجته ويلطمها ويضربها جسديا، فعليه وحده أن يتحمل مسؤولية ذلك وتبعاته، فالأمر هنا يتعلق بردة فعل الزوجة، أو أهلها، أو عشيرتها، أو كيفما كان العُرف المتبع وفقا لكل بيئة وقوانينها، فعلى الأقل، أستقبح هذا بشكل شخصي، وأستنكر على نفسي أن أقوم بذلك.

في النهاية، دعوني أذكركم بأن هذه المسألة تعد من الأمور الجدلية، وأن هذا النص، وغيره من النصوص المتعلقة بتفسيرات تتفق وتختلف مع ما كتبت، كلها تحتمل الصواب، وتحتمل الخطأ، فليس هناك صواب مطلق ولو كان لأعتى المتفقهين العالِمين، وليس هناك خطأ مطلق ولو كان لأجهل الجاهلين، فالأول قد يخطئ ولو مرة، والثاني قد يصيب ولو مرة، ولكن فقط قوموا بالبحث، ولا تعتمدوا على التلقين، ولا تقوموا باجتثاث الأمور من أبعادها ومضامينها وعلاتها المختلفة، وقارنوا بين هذا وذاك، واستخدموا عقولكم، بالاتساق مع الفطرة السليمة التي خلقنا الله سبحانه وتعالى عليها، ولا تأخذوا عني دون بحث، فلعلي أكون مخطئا، وأحسب نفسي على صواب إن شاء الله، سائلا الله عز وجل أن يجعل لنا من أمرنا رشدا. رزقني الله وإياكم الزوجة الصالحة. وبالتجرد من كل ما ذُكر، أختم حديثي إليكم بنصيحة أنصح بها نفسي أولا: أحسنوا معاملة أزواجكم، وحاذروا ضربهن وإيذاءهن، فلا معنى للحياة بدونهن، وتذكروا أن الله تعالى من أسمائه العدل، والعدل لا يكون بالتمييز ضد المرأة، وما فيه من امتهان لها.

٢٨ أكتوبر ٢٠١٥
____________________________________
نشر هذا المقال في موقع "ورقة"، بتاريخ ٢٤ يناير ٢٠١٦.

رابط المقال: http://www.war2h.com/2016/01/236.html?m=1